العلاج الجهازي لالتهاب الفم القلاعي الراجع:
التهاب الفم القلاعي الراجع (Recurrent Aphthous Stomatitis - RAS)، المعروفة بالعامية باسم "القُلاع" أو "تقرحات الفم المتكررة"، هي حالة شائعة ومؤلمة تتميز بظهور تقرحات مفتوحة ومؤلمة على الأنسجة الرخوة داخل الفم، مثل الشفاه، والخدين، واللسان، وقاع الفم، والبلعوم. على الرغم من أنها عادةً ما تكون ذاتية الشفاء، إلا أن تكرارها وشدة الألم الذي تُسببه يُمكن أن يؤثرا بشكل كبير على جودة حياة المريض، مما يُعيق تناول الطعام والشراب والتحدث. في حين أن العلاج الموضعي يُعد الخيار الأول لمعظم الحالات الخفيفة إلى المتوسطة، إلا أن الحالات الشديدة أو المتكررة للغاية قد تتطلب علاجًا جهازيًا (Systemic Treatment) للسيطرة على الأعراض وتقليل تكرار النوبات.
1. فهم التهاب الفم القلاعي الراجع (RAS)
قبل الغوص في العلاج الجهازي، من المهم فهم طبيعة RAS:
- الأسباب: السبب الدقيق لـ RAS غير معروف تمامًا، ولكن يُعتقد أنه متعدد العوامل، ويشمل استعدادًا وراثيًا، واضطرابات في جهاز المناعة، ونقص الفيتامينات والمعادن (مثل B12، الفولات، الحديد)، والتوتر، والإصابات الموضعية، وبعض الأطعمة، والتغيرات الهرمونية، وبعض الأدوية. لا تُعد تقرحات القلاع معدية.
- الأنواع:
- القلاع الصغير (Minor Aphthae): الأكثر شيوعًا (80% من الحالات)، تقرحات صغيرة (أقل من 1 سم)، بيضاوية أو مستديرة، ذات مركز أصفر-رمادي وهالة حمراء. تُشفى في 7-14 يومًا دون تندب.
- القلاع الكبير (Major Aphthae): أقل شيوعًا (10-15%)، تقرحات أكبر (أكثر من 1 سم)، عميقة، مؤلمة للغاية، وقد تستغرق أسابيع أو شهورًا للشفاء وتترك ندوبًا.
- القلاع الهربسي الشكل (Herpetiform Aphthae): الأقل شيوعًا (5-10%)، تظهر كعناقيد من التقرحات الصغيرة جدًا (2-3 ملم) التي قد تندمج لتُشكل تقرحات كبيرة غير منتظمة. تُشبه تقرحات الهربس لكنها ليست ناجمة عن فيروس الهربس.
2. دواعي استخدام العلاج الجهازي:
يُعتبر العلاج الجهازي خيارًا للحالات التي لا تستجيب للعلاج الموضعي، أو التي تُعاني من:
- تقرحات شديدة الألم أو كبيرة الحجم.
- تقرحات متكررة جدًا (نوبات متقاربة لدرجة أن المريض يُعاني من تقرحات جديدة قبل شفاء القديمة).
- تأثير كبير على جودة الحياة (صعوبة في الأكل، الشرب، التحدث).
- القلاع الكبير أو الهربسي الشكل الذي غالبًا ما يكون أكثر إيلامًا ويستغرق وقتًا أطول للشفاء.
- الاشتباه بوجود حالات جهازية (مثل مرض بهجت، داء كرون، نقص غذائي) تتظاهر بتقرحات فموية.
3. خيارات العلاج الجهازي الرئيسية:
يهدف العلاج الجهازي إلى تعديل الاستجابة المناعية للجسم أو معالجة الأسباب الكامنة. يجب أن يُوصف هذا النوع من العلاج بواسطة طبيب متخصص (أخصائي أمراض فم، طبيب جلدية، طبيب روماتيزم) نظرًا لآثاره الجانبية المحتملة.
أ. الكورتيكوستيرويدات الجهازية (Systemic Corticosteroids)
- الآلية: تُعد الكورتيكوستيرويدات من أقوى الأدوية المضادة للالتهاب والمثبطة للمناعة. تُقلل من الاستجابة الالتهابية وتقلل من نشاط الخلايا المناعية التي تُساهم في تكوين القرح.
- الأدوية الشائعة: بريدنيزون (Prednisone): هو الأكثر شيوعًا. يُوصف عادةً بجرعات عالية (مثل 30-60 ملغ يوميًا) لفترة قصيرة (أسبوع إلى أسبوعين)، ثم تُخفض الجرعة تدريجيًا لتجنب الآثار الجانبية.
- الاستخدام: تُستخدم في الحالات الشديدة والمستعصية على العلاج الموضعي، أو عند وجود قرحات كبيرة ومؤلمة جدًا تُعيق الوظائف الفموية.
الآثار الجانبية المحتملة:
- قصيرة المدى: زيادة الشهية، الأرق، عسر الهضم، تغيرات المزاج، احتباس السوائل.
- طويلة المدى (مع الاستخدام المزمن): هشاشة العظام، ارتفاع ضغط الدم، السكري، الساد (إعتام عدسة العين)، الزرق (الجلوكوما)، تثبيط الغدة الكظرية، زيادة خطر العدوى. لهذا السبب، يُفضل استخدامها لفترات قصيرة قدر الإمكان.
ب. الكولشيسين (Colchicine):
- الآلية: يُعتبر الكولشيسين من الأدوية المضادة للالتهاب التي تعمل عن طريق تثبيط هجرة الخلايا الالتهابية إلى مواقع الالتهاب وتثبيط بعض الاستجابات المناعية.
- الاستخدام: يُستخدم عادةً كخيار ثانٍ بعد الكورتيكوستيرويدات، أو كعلاج صيانة طويل الأمد للحالات المتكررة بشكل معتدل إلى شديد. تُوصف الجرعات عادةً ما بين 0.5 ملغ إلى 1.5 ملغ يوميًا.
- الآثار الجانبية المحتملة:
- الأكثر شيوعًا: اضطرابات الجهاز الهضمي مثل الإسهال، الغثيان، والقيء.
- أقل شيوعًا ولكنها خطيرة: تثبيط نخاع العظم (نقص خلايا الدم)، اعتلال عضلي (مشاكل عضلية)، اعتلال عصبي محيطي. تتطلب هذه الآثار مراقبة دورية للدم ووظائف الكلى والكبد.
ج. الثاليدوميد (Thalidomide)
- الآلية: دواء مثبط للمناعة له خصائص مضادة للالتهاب ومعدلة للمناعة. يُعتقد أنه يُثبط إنتاج عامل نخر الورم ألفا (TNF- α)، وهو سيتوكين التهابي رئيسي.
- الاستخدام: يُستخدم فقط في الحالات الشديدة جدًا والمعندة، خاصة تلك المرتبطة بمرض بهجت، نظرًا لآثاره الجانبية الخطيرة. يُوصف بجرعات منخفضة (50-100 ملغ يوميًا).
الآثار الجانبية الخطيرة:
- التأثير الماسخ (Teratogenic Effect): يُسبب تشوهات خلقية خطيرة جدًا للجنين إذا أُخذ أثناء الحمل. لهذا السبب، يُحظر استخدامه في النساء الحوامل أو اللواتي يُخططن للحمل، ويُتطلب منهن ومن الرجال استخدام وسائل منع حمل فعالة للغاية خلال العلاج وبعده.
- الاعتلال العصبي المحيطي: قد يُسبب تلفًا للأعصاب الطرفية، مما يؤدي إلى خدر ووخز وألم في الأطراف، ويُمكن أن يكون دائمًا.
- النعاس، الإمساك، انخفاض ضغط الدم.
د. الأدوية المثبطة للمناعة الأخرى (Immunosuppressants):
تُستخدم هذه الأدوية في الحالات المعقدة، المقاومة للعلاجات الأخرى، أو عندما تكون تقرحات القلاع جزءًا من مرض جهازي أكثر شمولاً (مثل مرض بهجت أو التهاب الأمعاء).
- آزاثيوبرين (Azathioprine): يُثبط تكاثر الخلايا الليمفاوية.
- ميثوتريكسات (Methotrexate): عامل مضاد للأيض يُستخدم أيضًا في علاج أمراض المناعة الذاتية.
- سايكلوسبورين (Cyclosporine): مثبط قوي للمناعة.
- الأدوية البيولوجية (Biologics): مثل مضادات TNF- α (مثل إنفليكسيماب Adalimumab أو Infliximab) التي تُستخدم بشكل رئيسي في مرض بهجت الشديد.
هـ. مكملات الفيتامينات والمعادن:
إذا كان هناك نقص مؤكد في الفيتامينات أو المعادن، فإن تعويضها يُعد جزءًا أساسيًا من العلاج، وقد يُقلل من تكرار النوبات.
- فيتامين B12 (كوبالامين): خاصة لدى النباتيين أو كبار السن أو الذين يعانون من سوء الامتصاص.
- حمض الفوليك (Folate).
- الحديد: في حالات فقر الدم الناجم عن نقص الحديد.
- الزنك: يُمكن أن يُلعب دورًا في وظيفة المناعة.
4. اعتبارات هامة عند العلاج الجهازي:
- التشخيص الدقيق: قبل البدء بأي علاج جهازي، من الضروري التأكد من التشخيص واستبعاد الأسباب الأخرى لتقرحات الفم (مثل العدوى الفيروسية، الفطرية، سرطانات الفم، أمراض المناعة الذاتية الأخرى). قد يُطلب أخذ خزعة.
- المتابعة الدورية: تتطلب جميع العلاجات الجهازية متابعة طبية دقيقة لمراقبة فعالية الدواء وتحديد أي آثار جانبية محتملة في وقت مبكر. قد تشمل هذه المتابعة فحوصات دم منتظمة (لمراقبة وظائف الكلى والكبد، تعداد الدم الكامل).
- نمط الحياة: بالإضافة إلى العلاج الدوائي، يُنصح بتعديلات في نمط الحياة مثل:
- تجنب الأطعمة المهيجة (الحارة، الحمضية، الصلبة).
- تجنب التوتر قدر الإمكان.
- الحفاظ على نظافة فموية جيدة.
- تجنب الصدمات الفموية (مثل عض الخد، الأسنان الحادة).
- الامتناع عن التدخين.
- العلاج الموضعي التكميلي: حتى مع العلاج الجهازي، قد يُظل العلاج الموضعي (مثل غسولات الفم المخدرة أو الكورتيكوستيرويدات الموضعية) مفيدًا لتخفيف الأعراض الحادة خلال النوبات.
5. الأبحاث المستقبلية والتوجهات الجديدة:
تتجه الأبحاث نحو فهم أعمق للآليات المناعية لـ RAS لتطوير علاجات أكثر استهدافًا وأقل آثارًا جانبية. تشمل مجالات البحث الواعدة:
المناعة الحيوية الموجهة (Targeted Biologics): استهداف سيتوكينات محددة أو مسارات التهابية تُشارك في تكوين القرح.
العلاج الجيني: على المدى الطويل، قد يُنظر في تعديل الجينات المرتبطة بالاستعداد الوراثي لـ RAS.
خلاصة:
يُعد التهاب الفم القلاعي الراجع حالة مؤلمة تُؤثر على شريحة واسعة من السكان. بينما تُعد العلاجات الموضعية كافية لمعظم الحالات، تُقدم العلاجات الجهازية الأمل للمرضى الذين يُعانون من أشكال حادة أو متكررة تُؤثر بشكل كبير على حياتهم. يتطلب اختيار العلاج الجهازي تقييمًا دقيقًا من قبل الطبيب، مع الأخذ في الاعتبار شدة الحالة، وتكرارها، وصحة المريض العامة، والمخاطر المحتملة للآثار الجانبية، مع ضرورة المتابعة الدورية لضمان أقصى درجات الفعالية والأمان.
التسميات
التهابات الفم