مرض السكري والأعصاب: فهم شامل للاعتلال العصبي السكري
يُعدّ مرض السكري حالة صحية مزمنة تؤثر على ملايين الأشخاص حول العالم. ورغم أن ارتفاع مستويات السكر في الدم هو السمة المميزة للمرض، إلا أن تأثيراته تتجاوز ذلك بكثير، لتشمل العديد من أجهزة الجسم، وفي مقدمتها الجهاز العصبي. يُعرف الضرر الذي يلحق بالأعصاب نتيجة لمرض السكري بـ الاعتلال العصبي السكري (Diabetic Neuropathy)، وهو من أكثر مضاعفات السكري شيوعاً وإرهاقاً.
يصيب الاعتلال العصبي السكري حوالي 50% من مرضى السكري، خاصة أولئك الذين يعانون من المرض لفترة طويلة أو لديهم تحكم ضعيف في مستويات السكر في الدم. يمكن أن يؤثر على أي نوع من الأعصاب في الجسم، مما يؤدي إلى مجموعة واسعة من الأعراض التي تتراوح من الخدر والألم إلى مشاكل خطيرة في وظائف الأعضاء الداخلية.
ما هو الاعتلال العصبي السكري؟
الاعتلال العصبي السكري هو تلف يصيب الأعصاب في جميع أنحاء الجسم. هذه الأعصاب تلعب دوراً حيوياً في نقل الرسائل بين الدماغ، الحبل الشوكي، وجميع أجزاء الجسم الأخرى. عندما تتضرر الأعصاب، تتأثر قدرتها على نقل هذه الرسائل بفعالية، مما يؤدي إلى خلل في الوظائف التي تتحكم فيها.
الأسباب الرئيسية لتلف الأعصاب في السكري:
- ارتفاع سكر الدم المزمن (Hyperglycemia): يُعتبر المسبب الرئيسي. المستويات المرتفعة من الجلوكوز في الدم تُلحق ضرراً مباشراً بالألياف العصبية وتُضعف وظيفتها.
- تلف الأوعية الدموية الصغيرة (Microvascular Damage): يؤثر السكري على الأوعية الدموية الدقيقة التي تغذي الأعصاب، مما يقلل من تدفق الدم والأكسجين والمغذيات اللازمة لصحة الأعصاب.
- الإجهاد التأكسدي والالتهاب: ارتفاع السكر يؤدي إلى زيادة إنتاج الجذور الحرة وتفاعلات كيميائية ضارة تسبب التهاباً وتلفاً خلوياً.
- التغيرات الأيضية: تتراكم مواد كيميائية ضارة داخل الخلايا العصبية بسبب اضطراب الأيض في السكري.
أنواع الاعتلال العصبي السكري:
أ. الاعتلال العصبي المحيطي (Peripheral Neuropathy):
وهو النوع الأكثر شيوعاً، ويؤثر بشكل أساسي على الأعصاب في الأطراف، خاصةً القدمين والساقين، وأحياناً اليدين والذراعين.
- الأعراض:
- خدر أو تنميل (Pins and Needles): شعور بالوخز أو الخدر، يبدأ عادة في أصابع القدمين ثم يمتد للأعلى.
- ألم وحرقان: قد يكون الألم حاداً، طعناً، أو شعوراً بالحرقة، ويزداد سوءاً في الليل.
- فقدان الإحساس: ضعف القدرة على الإحساس باللمس، الألم، الحرارة، أو البرودة، مما يزيد من خطر الإصابات غير المحسوسة.
- ضعف العضلات: قد يؤدي إلى صعوبة في المشي أو فقدان التوازن.
- مشاكل القدم: بسبب فقدان الإحساس، قد لا يدرك المريض وجود جروح، بثور، أو تقرحات في القدمين، مما يزيد من خطر العدوى وتطور القرح السكرية التي قد تؤدي إلى بتر الأطراف في الحالات الشديدة.
- قدم شاركو (Charcot Foot): حالة نادرة وشديدة تؤدي إلى ضعف العظام والمفاصل في القدم بسبب فقدان الإحساس، مما يسبب تشوهات وتلفاً في المفاصل.
ب. الاعتلال العصبي اللاإرادي (Autonomic Neuropathy - DAN):
يؤثر هذا النوع على الجهاز العصبي اللاإرادي الذي يتحكم في الوظائف الحيوية التلقائية في الجسم. (تم التفصيل فيه في الإجابة السابقة، وهنا ملخص لأبرز آثاره):
- الجهاز القلبي الوعائي: انخفاض ضغط الدم عند الوقوف (دوخة)، تسرع القلب في وضع الراحة، نقص الوعي بأعراض انخفاض السكر في الدم، وزيادة خطر النوبات القلبية الصامتة.
- الجهاز الهضمي: خزل المعدة (تباطؤ تفريغ المعدة)، إمساك، إسهال، وصعوبة في الببلع.
- الجهاز البولي التناسلي: ضعف الانتصاب، القذف الرجوعي، ومشاكل في المثانة (مثل احتباس البول أو سلس البول).
- التعرق: نقص التعرق في الأطراف (يزيد من خطر ارتفاع حرارة الجسم)، أو التعرق المفرط في الجزء العلوي من الجسم (خاصة أثناء الأكل).
- وظائف العين: صعوبة في تكيف حدقة العين مع الضوء أو الظلام.
ج. الاعتلالات العصبية البؤرية (Focal Neuropathies):
تؤثر هذه الأنواع على عصب واحد أو مجموعة محددة من الأعصاب، وغالباً ما تظهر بشكل مفاجئ.
- الاعتلال العصبي الأحادي (Mononeuropathy): يؤثر على عصب واحد معين. أمثلة:
- متلازمة النفق الرسغي (Carpal Tunnel Syndrome): ألم، خدر، وتنميل في اليد والمعصم.
- شلل بيل (Bell's Palsy): ضعف أو شلل في عضلات الوجه.
- اعتلال أعصاب قحفية: يؤثر على الأعصاب التي تتحكم في حركة العين أو عضلات الوجه، مما يسبب ازدواج الرؤية، تدلي الجفن، أو ألم خلف العين.
- اعتلال الأعصاب العجزية الجذرية (Radiculoplexus Neuropathy) أو الضمور العضلي السكري (Diabetic Amyotrophy):
- يصيب الأعصاب في الفخذ، الورك، الأرداف، أو الساقين.
- يسبب ألماً شديداً، ضعفاً عضلياً، وهزالاً في العضلات المصابة. غالباً ما يؤثر على جانب واحد من الجسم في البداية.
تشخيص الاعتلال العصبي السكري:
يعتمد التشخيص على مزيج من:
- التاريخ المرضي والفحص السريري: يسأل الطبيب عن الأعراض، ويجري فحصاً شاملاً يتضمن اختبار الإحساس (باللمس، الوخز، الحرارة، الاهتزاز)، اختبار المنعكسات، وفحص القدمين.
- اختبارات التوصيل العصبي (Nerve Conduction Studies - NCS) وتخطيط كهربية العضل (Electromyography - EMG): تقيس سرعة وقوة الإشارات الكهربائية التي تمر عبر الأعصاب والعضلات لتقييم مدى تلف الأعصاب.
- اختبارات وظائف الجهاز العصبي اللاإرادي: مثل اختبارات تقلب معدل ضربات القلب، اختبار تحمل الميل، واختبارات التعرق.
- اختبارات الدم: لاستبعاد أسباب أخرى لأعراض الاعتلال العصبي.
إدارة وعلاج الاعتلال العصبي السكري:
أ. التحكم الصارم في سكر الدم:
يُعدّ هذا هو حجر الزاوية في الوقاية والعلاج. الحفاظ على مستويات الجلوكوز في الدم ضمن النطاق المستهدف (HbA1c أقل من 7%) يمكن أن يمنع تطور الاعتلال العصبي أو يبطئه بشكل كبير، وقد يحسن بعض الأعراض الموجودة.
ب. إدارة الأعراض:
- تخفيف الألم:
- الأدوية المضادة للاختلاج: مثل غابابنتين (Gabapentin) وبريغابالين (Pregabalin) هي خط العلاج الأول للألم العصبي.
- مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات (TCAs): مثل أميتربتيلين (Amitriptyline) يمكن أن تساعد في تخفيف الألم.
- مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين والنورأدرينالين (SNRIs): مثل دولوكستين (Duloxetine) وفينلافاكسين (Venlafaxine).
- العلاجات الموضعية: مثل كريم الكابسيسين (Capsaicin cream) أو لصقات ليدوكائين (Lidocaine patches).
- الرعاية المكثفة للقدمين:
- الفحص اليومي للقدمين: للبحث عن أي جروح، بثور، أو تقرحات.
- غسل القدمين وتجفيفهما جيداً يومياً.
- ارتداء أحذية مريحة وواسعة وجوارب قطنية.
- تجنب المشي حافياً.
- زيارات منتظمة لطبيب الأقدام (Podiatrist).
- علاج الأعراض الخاصة باعتلال الأعصاب اللاإرادي:
- لمشاكل الجهاز الهضمي: تعديلات غذائية (وجبات صغيرة ومتكررة)، أدوية لزيادة حركة المعدة، أدوية للإمساك أو الإسهال.
- لمشاكل المثانة: أدوية لتحسين تفريغ المثانة، أو في بعض الحالات القسطرة.
- للضعف الجنسي: أدوية عن طريق الفم، أو حقن، أو أجهزة مساعدة.
- لانخفاض ضغط الدم الانتصابي: زيادة تناول السوائل والملح (باستشارة الطبيب)، ارتداء جوارب ضاغطة، وأدوية لرفع ضغط الدم.
ج. تعديلات نمط الحياة:
- نظام غذائي صحي ومتوازن.
- ممارسة النشاط البدني بانتظام (بعد استشارة الطبيب).
- الإقلاع عن التدخين: يزيد التدخين بشكل كبير من تلف الأعصاب والأوعية الدموية.
- التحكم في ضغط الدم ومستويات الكوليسترول إلى جانب سكر الدم.
- الحفاظ على وزن صحي.
الوقاية من الاعتلال العصبي السكري:
الوقاية هي أفضل استراتيجية. أهم طرق الوقاية تشمل:
- التشخيص المبكر والتحكم الفوري في السكري.
- الحفاظ على مستويات سكر الدم ضمن النطاق المستهدف قدر الإمكان.
- المتابعة المنتظمة مع فريق الرعاية الصحية للكشف عن أي علامات مبكرة للمضاعفات.
- تبني نمط حياة صحي يشمل الغذاء المتوازن، النشاط البدني، والابتعاد عن العادات الضارة.
خلاصة:
يُعدّ الاعتلال العصبي السكري تحدياً كبيراً لمرضى السكري، ولكن الفهم الشامل له، والالتزام بالتحكم الصارم في مستويات السكر في الدم، وإدارة الأعراض بفعالية، يمكن أن يقلل بشكل كبير من تأثيره على جودة الحياة. التوعية المستمرة والرعاية الصحية الجيدة هي مفتاح التعايش مع السكري والوقاية من مضاعفاته العصبية.