الازدهار العلمي والتقدم الطبي عند العرب.. الأدوية المفردة - العقاقير الأصيلة. الأدوية المركبة - الأقراباذين. ألحقوا بكل بيمارستان صيدلية خاصة به



في الحقيقة شهدت الفترة ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين تطورًا كبيرًا في مجال الطب، خاصة لاهتمـام الحكام والأمراء بالعلم الطبي وإنشاء دور الاستشفاء (البيمارستانات)، بل وصل الأمر إلى حد أن كان لهم دور أيضًا في تطور البحث الطبي في هذه المرحلة.

فقد تعددت الإشارات إلى صدور الأوامر السلطانية بالتأليف الطبي، مثل ما نجده في مخطوطة (بهجة الفكر في علاج أمراض العين لابن أبي عقيل حيث يذكر أن السلطان نجم الدين أيوب قد أمره بتأليف كتاب في أمراض العين، والأسباب المحدثة لها والعلامات الدالة عليها، والعلاجات الشافية منها، ويقول في ذلك: (امتثلت إلى ذلك، ووضعت الكتاب مشتملاً على ذكر العين) ، ثم يشرع المؤلف في عرض الموضوع عرضًا سريعًا موسوعيٌّا على طريقة علماء العصر.

وإلى جانب اهتمام الحكام والأمراء بالتأليف، إلا أن القرنين السادس والسابع الهجريين قد مثلا عصر التطبيق وظهور الاكتشافات الطبية الجديدة، مثال ذلك الدورة الدموية لابن النفيس.

وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت الصلة الوثيقة بين الصيدلة والطب حيث كان الطبيب يعد أدويته بنفسه حسب معرفته وتجاربه الخاصة، والدليل على ذلك التآليف الكثيرة التي وضعها الأطباء في الصيدلة، أي في الأدوية المفردة والمركبة سواء كانت من نبات أو حيوان أو معادن.

وقد عرفوا الأدوية المفردة بالعقاقير الأصيلة، أما الأدوية المركبة فسموها (الأقراباذين) وبقي هذان الاسمان متداولين عبر التاريخ. وتقدموا تقدمًا ملحوظًا في معرفة خواص العقاقير سواء كانت من النباتات أو المعادن أو الحيوانات، فهم الذين أرسوا قواعد علم الصيدلة.

وهناك إجماع عند مؤرخي العلم أن علماء العرب والمسلمين هم الذين وضعوا قواعد علم الصيدلة وفصلوها عن علم الطب، لأن الصيدلة والطب كانتا مهنة واحدة.

وقد حاول علماء المسلمين أن يحصلوا على متخصصين في مجال الصيدلة، فأنشأوا المدارس التي تعلم الدارسين طريقة تحضير الأقراباذين وطريقة تسويقها، كما أنهم أول من عمل صيدلية عامة، وصيدلية خاصة ملحقة بالمستشفى.

يقول الدكتور عبد الرحمن مرحباً: (وللعرب نصيب كبير في نشأة الصيدلة وتقدمها. فقد بلغت على أيديهم مبلغًا عظيمًا من الرقي، فالعرب هم المؤسسون الحقيقيون لمهنة الطب التي رفعوها عن مستوى تجارة العقاقير. وهم الذين أنشأوا المدارس لتحضير الأقراباذين وأماكن لبيعها وتصريفها وأخضعوا هذه الصناعة لرقابة الدولة لمنع الغش، فكان الصيادلة لا يزاولون مهنتهم إلا بعد الترخيص لهم. وقد افتتحوا الصيدليات العامة في أواخر القرن الثامن للميلاد في عهد المنصور، كما ألحقوا بكل بيمارستان صيدلية خاصة به).

ومنذ أيام المأمون في القرن التاسع كانت الصيدليات تحت إشراف الدولة صيانة لها من تجار العقاقير، ويقول طوقان: (كان في كل مدينة مفتش خاص للصيدليات وتحضير الأدوية).

لقد حازت بحوث المسلمين في حقل الصيدلة موقع الصدارة، منذ وقت مبكر، ولا أدل على ذلك من أننا نجد كثيرًا من المؤلفات الصيدلية لكثير من حكماء الإسلام وعلمائه، مثل بعض أجزاء القانون لابن سينا الذي خصصه لدراسة الأدوية والعقاقير الهامة والتي يعتمد عليها الطبيب في علاجه، وكذلك البيروني معاصره والمتفوق عليه في هذا الجانب بكتابه (الصيدلة في الطب) والذي ألفه مسجلاً فيه خمسة أضعاف ما سجله (ديسقوريدوس) في دراساته للعقاقير.

وكانت ميزته في هذا الكتاب معرفته التامة بكل من اللغة السنسكريتية والفارسية والعربية واليونانية إضافة إلى لهجته الخوارزمية، مما مكنه أن يورد في كتابه أسماء العقاقير بكل هذه اللغات، محاولا التوحيد بين مصطلحات علم الصيدلة عالمياً بقدر الإمكان، هذا فضلا عن وضعه لمقدمة الكتاب والتي تعدّ دستوراً طبيٌّاً لا غنى للطبيب من الاطلاع عليه، خاصة وأنه يورد فيه الأخلاقيات العلمية التي ينبغي أن يتصف بها الصيدلاني، وكذلك الأسلوب العلمي الذي ينبغي أن يتبعه في عمله الطبي وتكوينه للأدوية والعقاقير، ويكتسب الصيدلي ـ عنده ـ معرفة بقوى الأدوية وتأثير العقاقير بطول التجربة واستمرار الممارسة.

وقد تمكن البيروني من جعل الصيدلة، وإن تكن آلة الطب، علماً مستقلاً كاستقلال المنطق عن الفلسفة، والعروض عن الشعر.

وعلى الرغم من اعتماد الصيادلة العرب في بداية أبحاثهم ودراساتهم على كتب السابقين، إلا أنهم تمكنوا من إضافة مادة طبية غزيرة سواء كانت نباتية أم حيوانية أو معدنية، بفضل اتساع رقعتهم الجغرافية ونمو كثير من النباتات الطبية فيها، بالإضافة إلى تفوقهم في علم الكيمياء، مما مكنهم من ابتكار أدوية لم تكن معروفة من قبل، ركبوها من تلك الأصول وأضافوا إلى ما عرفوا من صنوفها عن الهنود واليونان، فكانوا بهذا سباقين إلى ابتداع الأقراباذين أو الفارماكولوجي Pharmacology على الصورة التي وصلت إلينا.

ولا أدل على تقدم المسلمين في علم الصيدلة من أنهم كانوا يتحققون من أي الأجزاء من النبات يكون العقار أفيد وأقوم وأفضل، وكذلك مواعيد جمع العقاقير من النبات وجنيها أو قطفها منها، وكيفية إدخالها وتخزينها، محتفظة بفوائدها وقوتها دون أن يتطرق إليها الفساد، مع معرفة علامات فسادها، وكذلك انتقاء أجود النبات المستخدم في صنع العقار، ولقد أطنب في هذا المجال الكثير من أطباء العرب كابن سينا والطبري والمجوسي وداود الأنطاكي والرازي والبيروني وابن البيطار.