نكاح الرهط: من الفوضى الجاهلية إلى تنظيم الشريعة: كيف جاء الإسلام ليُبطل هذه الممارسة ويُرسّخ قيم النكاح الصحيح وحفظ النسل

نكاح الرهط في الجاهلية: صورة من التفكك الاجتماعي وتأثير الإسلام في إصلاحها

يمثل نكاح الرهط إحدى صور الزواج الغريبة التي كانت سائدة في بعض المجتمعات العربية قبل بزوغ نور الإسلام، وهو يلقي الضوء على طبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية في تلك الفترة. لم يكن هذا النوع من الزيجات قائمًا على مبادئ واضحة لتحديد الأنساب أو بناء الأسرة المتماسكة، مما جعله عرضة للفوضى والالتباس، وهو ما كان سببًا رئيسيًا في إبطاله وتحريمه بشكل قاطع مع قدوم الشريعة الإسلامية.


مفهوم "الرهط" وعلاقته بنكاح الرهط:

كلمة "الرهط" في اللغة العربية تعني جماعة من الرجال لا يبلغ عددهم العشرة، ولا يختلط بهم نساء. لكن في سياق هذا النكاح الجاهلي، اكتسبت الكلمة دلالة خاصة تشير إلى المجموعة من الرجال الذين يتقاسمون العلاقة مع امرأة واحدة. هذا المفهوم بحد ذاته كان يعكس درجة من التفكك في تنظيم العلاقات الزوجية والأسرية.


الصورة التفصيلية لنكاح الرهط:

كانت ممارسة نكاح الرهط تتم على النحو التالي:

  1. اشتراك جماعة من الرجال في امرأة واحدة: كانت المرأة تُعاشر (تُجامع) مجموعة من الرجال، يتراوح عددهم عادة بين ثلاثة وعشرة. لم يكن هناك عقد زواج فردي مع أي منهم، بل كانت العلاقة تتم بموافقة ضمنية أو صريحة من جميع الأطراف. هذا يعني أن المرأة لم تكن زوجة لرجل واحد، بل كانت "محل اشتراك" لمجموعة من الرجال.
  2. غياب مسؤولية الأبوة الواضحة: لم تكن هناك آلية واضحة لتحديد الأبوة البيولوجية للولد في حال حملت المرأة وأنجبت. هذا الجانب كان هو الأخطر والأكثر إشكالًا من الناحية الاجتماعية والأخلاقية.
  3. إجراء "الاستلحاق" بعد الولادة: إذا حملت المرأة من أحد هؤلاء الرجال وأنجبت ولدًا، فإنها كانت تُرسل إلى هؤلاء الرجال المشتركين في الاتصال بها بعد فترة من ولادتها، وغالبًا ما كانت تجمعهم في مكان واحد.
  4. تحديد الأم للنسب: كانت المرأة هي التي تحدد لمن يُنسب الولد من بين هؤلاء الرجال. فتقول لهم: "هذا ولدك يا فلان" أو "هذا ولدك يا فلان"، وتُشير إلى واحد منهم باسمه.
  5. وجوب الإقرار وعدم حق الإنكار: بمجرد أن تحدد الأم الرجل الذي تُنسب إليه الولد، كان يُلزم هذا الرجل بقبول الولد ونسبه إليه. لم يكن يحق له أن يمتنع أو يُنكر هذا النسب، ولا يُمكن لأحد من باقي الرهط أن يُعارض قرار الأم في تحديد الأب. كان هذا الإلزام يُعطي للمرأة سلطة حاسمة في تحديد النسب، لكنه كان قائمًا على أساس غير بيولوجي وربما اجتماعي، مما يجعل النسب غير مؤكد من الناحية الوراثية.

هذا النمط من الزواج كان يفتقر إلى الركائز الأساسية التي تضمن الاستقرار الأسري وحفظ الحقوق، وأهمها معرفة الأب البيولوجي، وتحديد المسؤوليات، وتوفير الحماية القانونية والاجتماعية للأسرة والطفل.


أسباب تحريم نكاح الرهط في الإسلام: مقاصد الشريعة

جاء الإسلام ليُحدث ثورة شاملة في تنظيم العلاقات الاجتماعية والأسرية، وكان إبطال نكاح الرهط جزءًا أساسيًا من هذا الإصلاح. تحريم هذا النوع من الزيجات لم يكن مجرد منع لسلوك معين، بل كان يخدم مقاصد عليا للشريعة الإسلامية، منها:


1. حفظ الأنساب (The Preservation of Lineage):

يُعتبر حفظ النسب من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها (الدين، النفس، العقل، النسل، والمال). النسب في الإسلام ليس مجرد علاقة بيولوجية، بل هو أساس للعديد من الأحكام الشرعية:

  • الميراث: تحديد الورثة وحصصهم يعتمد بشكل كلي على النسب.
  • النفقة: واجب نفقة الأب على أبنائه.
  • الزواج: تحريم زواج المحارم يعتمد على معرفة النسب.
  • الولايات: كولاية الأب على ابنته في الزواج، أو الولاية في الدماء وغيرها. نكاح الرهط كان يُؤدي إلى اختلاط الأنساب (Intermingling of Lineages) وضياعها، مما يُهدد النسيج الاجتماعي ويُعقد تطبيق الأحكام الشرعية المرتبطة بالنسب.

2. صون الأعراض والعفة (Protecting Honor and Chastity):

يرفع الإسلام من مكانة المرأة ويُعلي من شأن العفة والطهارة في المجتمع. نكاح الرهط كان يُعتبر شكلاً من أشكال الفوضى الأخلاقية التي تُعرض عرض المرأة للخطر وتُشيع الفاحشة. الإسلام جاء ليُحصن المرأة بالزواج الشرعي الذي يحفظ كرامتها، ويُحقق لها الأمان، ويُضفي الشرعية على علاقتها بزوجها.

3. تنظيم العلاقة الزوجية وبناء الأسرة المستقرة (Regulating Marital Relations and Building Stable Families):

يُؤسس الإسلام للزواج على أساس علاقة فردية وواضحة بين رجل وامرأة، تقوم على:
  • الإيجاب والقبول: موافقة صريحة من الطرفين.
  • الشهود: لتوثيق العقد وإعلانه.
  • المهر: حق للمرأة.
  • الولي: في بعض الحالات لحماية حقوق المرأة.
  • النيّة الدائمة: أن تكون العلاقة دائمة وليست مؤقتة. هذا النظام يُحدد الحقوق والواجبات لكل من الزوجين والأبناء بوضوح، ويُمكن الأبناء من معرفة آبائهم بشكل لا لبس فيه. نكاح الرهط كان يُقوّض هذا النظام ويُدخل الفوضى في العلاقات، مما يستحيل معه بناء أسرة متماسكة تقوم على المودة والرحمة.

4. تحقيق الاستقرار الاجتماعي والنفسي للأبناء (Achieving Social and Psychological Stability for Children):

الطفل الذي يولد في ظل نكاح الرهط كان يُحرم من معرفة هويته الأبوية الواضحة، مما قد يُسبب له اضطرابات نفسية واجتماعية عميقة. الإسلام يُوفر للطفل الحق في النسب، ويوفر له بيئة أسرية مستقرة بوجود أب وأم معروفين يتحملان مسؤولية تربيته ورعايته. هذا الاستقرار ضروري لنمو الطفل الصحيح وتنشئته الصالحة.

إن تحريم نكاح الرهط لم يكن مجرد منع لعادة جاهلية، بل كان خطوة أساسية نحو بناء مجتمع إسلامي قائم على العدل، النظام، الأخلاق الفاضلة، وصيانة الحقوق، وتأسيس الأسرة كنواة صلبة للمجتمع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال