رحلات ابن البيطار العلمية.. ذكر المعتاد لأسماء البلدان التي يجد بها نباتات جديدة أو غير معروفة أو ذات استعمالات خاصة



كانت نفس ابن البيطار تواقة للعلم دائما، فبعد أن تمكن في الأندلس من علم النبات، غادر بلاد الأندلس - بلا رجعة - في سن العشرين من عمره في رحلة علمية طويلة، مر في رحلته بالمغرب الأقصى فالجزائر فتونس ثم طرابلس وبرقة، ثم أخذ طريق البحر نحو آسيا الصغرى، فزار اليونان ووصل به المطاف إلى أقصى بلاد الروم، ثم اتجه إلى المشرق الإسلامي فزار بلاد فارس والعراق ثم بلاد الشام ومصر.

ولم يكن مروره بتلك البلدان عابراً، بل إنه كان يقيم بكل بلد مدة  يبحث فيها عن النباتات ويدرس كل نبات في منبته، ويدرس الأرض التي تنبته، وكان يصطحب رساماً معه يرسم له كل نبات بدقة، ثم يجتمع مع علماء تلك البلاد فيأخذ عنهم ويتدارس معهم مسائل النبات. 

وقد تهيأت له من ذلك كله معرفة معمقة بالنبات الموجود في البيئة العربية وفي آسيا الصغرى، وصار أوحد زمانه وعلامة وقته في تحقيق النبات ومواضع منابته ونعت أسمائه على اختلافها وتنوعها، وعن ذلك يقول ابن أبي أصيبعة: "شاهدت معه في ظاهر دمشق كثيرًا من النبات في مواضعه".

يخبرنا مثلا أنه وجد النبات "الفلاني" بالمكان "الفلاني"، ويقدم لنا كذلك أسماء النبات بلغة الأندلس وقتها و يسميها بالعجمية، ويقول عنها أحيانا أنها اللاتينية، وهو يعني اللسان الإسباني. في بداية نشأته سافر أستاذه أبو العباس إلى الشرق سنة 1216 أو 1217م. وبعده بسنوات، أي في عام 1219 أو 1220 م، سلك ابن البيطار نفس الطريق.

حل ابن البيطار بالمغرب و تنقل فيه مدة طويلة، نظرا للعدد الكبير من الملاحظات التي سجلها فيه، ولم يكتف بذكر النباتات التي جمعها به، بل حافظ لنا على الكثير من الأسماء البربرية [الأمازيغية] التي أدخِلت وأدرجت بفضله في مدونة الأعشاب، ودوِّنت بالقواميس والمعاجم العربية كمصطلحات علمية .وتبرز إقامة ابن البطار بالمغرب جلية عند وصفه لشجرة الأركان
[Arganier = Argania orientalis Virey. = Sideroxylon spinosum L.].

توقف ببجاية بالجزائر، و وُجِدَ بها سنة 1220م، و أكد هذا في كتابه " المُغني " أثناء حديثه عن نبات "الظيان" أو ياسمين البر [Clématite].

و كانت بجاية وقتها بلدة صغيرة ذات إشعاع و شهرة، تكلم عنها ابن البيطار أثناء حديثه عن نبات "الآطريلال" [Ptychotis verticillata]، وكانت قبيلة في النواحي، هي بنو وجهان، تتاجر به كدواء خاص بالبرص. وتوقف بقسطنطينة، وبالموضع المسمى بالسومة، ووجد لأول مرة نبات "العاقر قرحا" [Pyrèthre = Anacyclus pyrethrum D.C.].

وفي تونس تعشب "الحرشف البري" [Cynara acaulis = Tafrait]. و نجده بعد ذلك بطرابلس، وفيها لاحظ لأول مرة نبات "الأوشار" [ Asclepias procera = l'Ouchchar]، كما اننا نجده يجمع الأعشاب و يكتب عنه ببرقة.

وعند هذا الحد نفقد أثره و نظن انه أبحر في اتجاه شواطئ آسيا الصغرى.
ومن جملة الأسباب التي تجعلنا نتوقع حدوث هذه المغامرة أننا نقرأ له في كتابه "المُغني" أنه تعشب عام 1224 م بنواحي  أضاليا  [Adalia]، بمنطقة [Kala Hissarsily]، نوعا من جنس نبات "الجعدة" [Teucrium] احتفظ به حتى وصوله إلى الإسكندرية.

وعند بحثنا في كتاباته عن ذكره للبلدان التي زارها في هذا الاتجاه، ينتهي بنا المطاف بأنطاكيــا [Antioche].
ولهذا يصعب علينا قبول تواجده بـ" أضاليا" نتيجة سفر دفع به من سورية نحو آسيا الصغرى.

وكيفما كان الشأن، فإن تعرفه على سواحل آسيا الصغرى شيء إيجابي، ونعتقد أن علينا أن نفهم من هذا ما حكي عنه بعضهم من أنه سافر إلى بلاد الروم، ومن الخطأ أن يُظن هنا أنه بلد الإغريق ، بل نرى أنه من الواجب اعتباره بلاد "السلجوقيين" [Seljoucides].

ولو كان ابن البيطار جاب بلاد الإغريق لذكر لنا منها أسماءها كعادته، وقد سبق و أشرنا إلى أننا لا نستطيع تتبع مراحل سفره إلى أبعد من أنطاكية.

حل ابن البيطار بمصر في عهد الملك الكامل، الذي استقبله و أدخله في حاشيته، وعينه مراقبا للعشابين [العطارين] بالقاهرة، أو رئيس أطباء مصر حسب رواية أخرى، وهي مرتبة نعرفها عند آخرين.

لحق ابن البيطار بالملك الكامل وكان موجودا بدمشق، حيث توفي الملك فيها سنة 1237م  وخلف ولدين هما الملك العادل والملك الصالح نجم الدين ، تولى الأول على مصر، والثاني على سورية.

و بعد عامين أزاح الملك الصالح أخاه و استق بالولايتين، فتبعه ابن البيطار و رجع معه إلى مصر.
وفي هذه المرحلة بدأ ابن البيطار يحرر مؤلفاته التي تشهد بقيامه لجولات واستطلاعات ميدانية لدراسة النباتات في عهد الملك الكامل. وكتب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" و "المغني" في عهد الملك الصالح، وبإشارة منه، و إليه تم إهداؤهما.

سبق أن أشرنا إلى أخبار تدعي سفر ابن البيطار إلى اليونان أو بلاد الإغريق، وقد قيل بالمثل خطأً أنه سافر إلى بلاد الهند . وشبّه أبو الفداء هذه الأسفار بتنقلات الفلاسفة القدامى و خاصة منهم "بليناس" [Balinas].

و ذهب كل من " دربلوت" [= D'Herbelot]، و"كازيري" [= Casiri] ، و"روسي" [= Rossi] الخ، أن "بليناس" هذا هو "Pline l'Ancien = Plinius"، عالم الطبيعيات.

ولدينا طريقة أخرى لتتبع تنقلات ابن البيطار، و ذلك من خلال ذكره المعتاد لأسماء البلدان التي يجد بها نباتات جديدة أو غير معروفة أو ذات استعمالات خاصة، و ندرجها هنا للتذكير:
فباستثناء مصر و نواحي دمشق اللتين أقام بهما طويلا، نجده يقطف الـ"مغد ذو الأوراق القلبية" [=Solanum cordatum] بالحجاز، و "حشيشة العصافير [=Passerine] بغزة، و "أمدريان = دموع أيوب = شجرة التسبيح" [Coix lachryma=] بالقدس، حيث تصنع منها السبحات، و يتعرف على "حجر اليهود" [pierre judaique] ببيروت، و "مازريون ديسقوريدس" [Daphnoides de Dioscorides] بلبنان، و نبات "الغاسول" [Hippophae] بأنطاكية، و "الكاكنج" [=Physalis alkekenge] بإيدس [هي الآن Urfa بتركيا]، وتعشب "البابونج" [Matricaire] بالموصل، و "المرار" [Centaurea calcitrapa] بديار بكر، بتركيا.
و هذه تقريبا أقصى حدود تجواله.

اتصل ابن البيطار خلال تنقلاته بهذه البلدان بعلمائها الذين يستطيعون تزويده بمعلومات عن نباتاتها.
وهناك رجل نستغرب كثيرا عدم ذكره بين معارف ابن البيطار، هو رشيد الدين ابن الصوري، و هو ذلكم الهاوي المهتم بدراسة النباتات و الذي كان يرسمها بإتقان، و لم يكن مستبعدا حضوره لدمشق أثناء تواجد ابن البيطار بها.

ثم استقر ابن البيطار في مصر، وحظي بمنزلة رفيعة عند سلطانها الأيوبي الملك الكامل، الذي ألحقه بخدمته وجعله رئيسا على سائر العشّابين، وبعد وفاته حظي عند الملك الصالح نجم الدين أيوب بما كان يحظى به عند والده الملك الكامل من منزلة، فكان ينتقل معه بين القاهرة ودمشق.

ويوضح عبد الرزاق نوفل في كتابه (المسلمون والعلم الحديث) مقدرة ابن البيطار بقوله: "ضياء الدين هو أول عالم اهتم بدراسة الحشائش التي تنبت في الحقل وتضر بالمحاصيل، وكوّن لذلك مجموعات في الأنواع المختلفة والأصناف العديدة التي تختص بكل محصول، ومازالت فكرة تكوين مجموعات الحشائش هي الأساس الذي يلجأ إليه علماء النبات في أبحاثهم حتى الوقت الحاضر".