فقدان الشهية والشراهة: اضطرابات معقدة في علاقة الإنسان بالطعام
يُعدّ كل من فقدان الشهية (Loss of Appetite أو Anorexia) والشراهة (Binge Eating) وجهين مختلفين لاضطرابات معقدة تتعلق بتنظيم الشهية وتناول الطعام. كلاهما لا يمثلان مجرد عيارات عابرة في عادات الأكل، بل يمكن أن يكونا مؤشرات على حالات صحية كامنة، سواء كانت جسدية أو نفسية، وتتطلبان فهمًا دقيقًا ومعالجة مناسبة. يتأثر تنظيم الشهية بالعديد من العوامل الفسيولوجية، الهرمونية، النفسية، والبيئية، مما يجعل التعامل مع هذه الاضطرابات تحديًا يتطلب نهجًا شموليًا.
1. آليات تنظيم الشهية: نظام معقد
يتحكم الدماغ، وبخاصة منطقة الوطاء (Hypothalamus)، في الشهية من خلال شبكة معقدة من الإشارات الهرمونية والعصبية. هناك هرمونات تُحفز الجوع (مثل الغرلين - Ghrelin الذي يُفرز من المعدة)، وهرمونات تُرسل إشارات الشبع (مثل اللبتين - Leptin من الخلايا الدهنية، والكوليسيستوكينين - Cholecystokinin من الأمعاء). أي خلل في هذا التوازن الدقيق يمكن أن يؤدي إلى تغيرات في الشهية، سواء بالزيادة أو النقصان.
فقدان الشهية: عندما يختفي الإقبال على الطعام
فقدان الشهية هو نقص أو غياب الرغبة في تناول الطعام. لا يعني بالضرورة فقدان الوزن، ولكنه يمكن أن يؤدي إليه إذا استمر لفترة طويلة. يجب التمييز بين فقدان الشهية العرضي (الذي قد يحدث بسبب نزلة برد خفيفة) وفقدان الشهية المزمن أو الشديد الذي يستدعي التدخل الطبي.
أسباب فقدان الشهية:
تتعدد أسباب فقدان الشهية لتشمل جوانب جسدية ونفسية:
- الأسباب الطبية:
- الأمراض الحادة والمزمنة: العديد من الأمراض يمكن أن تُسبب فقدان الشهية، مثل الإنفلونزا، الالتهابات البكتيرية أو الفيروسية، أمراض الكلى والكبد، قصور الغدة الدرقية، قصور القلب، والسكري.
- السرطان والعلاج الكيميائي/الإشعاعي: يُعدّ فقدان الشهية شائعًا جدًا لدى مرضى السرطان، خاصةً أثناء العلاج، بسبب الغثيان، التعب، وتغيرات حاسة التذوق.
- مشاكل الجهاز الهضمي: الغثيان، القيء، الإمساك المزمن، الإسهال، الارتجاع المعدي المريئي، أو حالات مثل داء كرون والتهاب القولون التقرحي.
- مشاكل الأسنان والفم: الألم الناتج عن تسوس الأسنان، تقرحات الفم، أو صعوبة المضغ.
- الأدوية: بعض الأدوية لها آثار جانبية تؤثر على الشهية، مثل المضادات الحيوية، مسكنات الألم الأفيونية، وبعض أدوية القلب.
- الحمل: خاصة في الأشهر الأولى بسبب غثيان الصباح.
- التقدم في العمر: قد تنخفض الشهية بشكل طبيعي لدى كبار السن بسبب تغيرات في حاسة التذوق والشم، وبطء عملية الأيض، وتناول عدة أدوية.
- الأسباب النفسية والعاطفية:
- الاكتئاب والقلق: يُعدّ الاكتئاب أحد الأسباب الرئيسية لفقدان الشهية المزمن، حيث تُفقد الرغبة في الأنشطة اليومية بما في ذلك تناول الطعام. القلق والتوتر الشديدان يمكن أن يؤثرا أيضًا على الجهاز الهضمي ويُقللا الشهية.
- اضطرابات الأكل: مثل فقدان الشهية العصبي (Anorexia Nervosa)، وهو اضطراب نفسي خطير يتميز بالخوف الشديد من زيادة الوزن، وصورة مشوهة للجسم، وتقييد حاد لتناول الطعام، مما يؤدي إلى انخفاض وزن الجسم بشكل خطير.
- الحزن والصدمة: الأحداث الحياتية الكبرى والمؤلمة قد تُسبب فقدانًا مؤقتًا للشهية.
مضاعفات فقدان الشهية المزمن:
إذا استمر فقدان الشهية ولم يُعالج، يمكن أن يؤدي إلى:
- سوء التغذية (Malnutrition): نقص الفيتامينات والمعادن والبروتينات اللازمة لوظائف الجسم الحيوية.
- فقدان الوزن الشديد (Severe Weight Loss): الذي يمكن أن يؤثر على جميع أجهزة الجسم.
- ضعف الجهاز المناعي: مما يزيد من خطر الإصابة بالعدوى.
- الإرهاق والتعب المزمن.
- مشاكل في النمو والتطور (لدى الأطفال والمراهقين).
إدارة فقدان الشهية:
يعتمد العلاج على السبب الكامن. يشمل النهج العام:
- معالجة السبب الأساسي: سواء كان ذلك علاجًا لمرض معين أو تعديلًا للأدوية.
- الدعم الغذائي: تقديم وجبات صغيرة ومتكررة وغنية بالسعرات الحرارية والمغذيات، أو استخدام مكملات غذائية سائلة.
- التحفيز الشهية: في بعض الحالات، قد يصف الأطباء أدوية تُحفز الشهية (مثل الميغيستيرول أو درونابينول في حالات معينة).
- الدعم النفسي: في حالات الأسباب النفسية، يُعد العلاج النفسي (مثل العلاج السلوكي المعرفي) ضروريًا.
الشراهة: نوبات من الإفراط في الأكل
الشراهة (Binge Eating) هي تناول كميات كبيرة جدًا من الطعام في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، مصحوبًا بشعور بفقدان السيطرة وعدم القدرة على التوقف عن الأكل. غالبًا ما تتم هذه النوبات في الخفاء وتتبعها مشاعر شديدة من الذنب، الخجل، أو الاشمئزاز. يمكن أن تكون الشراهة جزءًا من اضطرابات الأكل مثل اضطراب الشراهة عند الأكل (Binge Eating Disorder - BED) أو الشره المرضي العصبي (Bulimia Nervosa).
أسباب الشراهة:
تتداخل أسباب الشراهة مع عوامل نفسية، عاطفية، وجينية:
- الأسباب النفسية والعاطفية:
- التوتر والقلق والاكتئاب: يُعدّ الأكل العاطفي طريقة للتعامل مع المشاعر السلبية. قد يلجأ البعض إلى الطعام كوسيلة للراحة أو الهروب من المشاعر المؤلمة.
- تدني احترام الذات وصورة الجسم السلبية: الشعور بعدم الرضا عن المظهر أو الوزن يمكن أن يدفع إلى دورة من التقييد ثم الشراهة.
- تاريخ من الحميات الغذائية القاسية (Extreme Dieting): محاولة تقييد السعرات الحرارية بشكل مفرط يمكن أن تُؤدي إلى حرمان جسدي ونفسي، مما يُفاقم الرغبة في الشراهة.
- مشاكل في تنظيم العواطف: صعوبة في التعامل مع الغضب، الحزن، أو الملل دون اللجوء إلى الطعام.
- الصدمات السابقة: التجارب المؤلمة في الحياة يمكن أن تكون عامل خطر.
- العوامل البيولوجية والوراثية:
- الوراثة: قد يكون هناك استعداد وراثي لاضطرابات الأكل.
- خلل في كيمياء الدماغ: اضطرابات في النواقل العصبية (مثل السيروتونين والدوبامين) التي تؤثر على المزاج والتحكم في الاندفاع.
- العوامل البيئية والاجتماعية:
- توفر الطعام بكثرة: سهولة الوصول إلى الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية والسكرية.
- الضغط الاجتماعي: ضغوط المجتمع المحيط حول الوزن والمظهر.
أنواع اضطرابات الشراهة:
- اضطراب الشراهة عند الأكل (BED): يتضمن نوبات متكررة من الشراهة دون سلوكيات تعويضية (مثل التطهير أو ممارسة الرياضة المفرطة). يُعد هذا الاضطراب الأكثر شيوعًا بين اضطرابات الأكل ويمكن أن يؤدي إلى زيادة الوزن والسمنة.
- الشره المرضي العصبي (Bulimia Nervosa): يتميز بنوبات من الشراهة يتبعها سلوكيات تعويضية للتخلص من السعرات الحرارية المتناولة (مثل القيء المتعمد، استخدام الملينات، مدرات البول، أو ممارسة الرياضة المفرطة). غالبًا ما يكون وزن المصابين بالشره المرضي ضمن المعدل الطبيعي أو قريبًا منه، مما يُصعب اكتشاف الحالة.
مضاعفات الشراهة المزمنة:
تُسبب الشراهة مجموعة واسعة من المشاكل الصحية، خاصةً عند عدم معالجتها:
- المضاعفات الجسدية (خاصة في BED):
- السمنة والأمراض المرتبطة بها: داء السكري من النوع 2، أمراض القلب والأوعية الدموية، ارتفاع ضغط الدم، ارتفاع الكوليسترول، مشاكل المفاصل، انقطاع التنفس أثناء النوم.
- مشاكل الجهاز الهضمي: آلام في البطن، انتفاخ، إمساك شديد، ارتجاع معدي مريئي.
- المضاعفات الجسدية (خاصة في Bulimia Nervosa):
- تآكل مينا الأسنان: بسبب حمض المعدة الناتج عن القيء المتكرر.
- مشاكل الغدد اللعابية: تضخم الغدد اللعابية.
- خلل في توازن الكهارل (Electrolyte Imbalance): نقص البوتاسيوم والصوديوم، مما قد يؤدي إلى مشاكل في القلب (عدم انتظام ضربات القلب) والكلى.
- تمزقات في المريء: نتيجة للقيء الشديد.
- مشاكل في الجهاز الهضمي: التهاب المريء، تلف الأمعاء من استخدام الملينات.
- المضاعفات النفسية: الاكتئاب، القلق، تدني احترام الذات، العزلة الاجتماعية، أفكار الانتحار.
إدارة الشراهة:
تتطلب معالجة الشراهة نهجًا متعدد التخصصات يشمل:
- العلاج النفسي (Psychotherapy):
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يُعدّ الأكثر فعالية، ويُركز على تحديد وتغيير أنماط التفكير والسلوك غير الصحية المتعلقة بالطعام وصورة الجسم.
- العلاج السلوكي الجدلي (DBT): يُساعد على تعلم مهارات تنظيم العواطف والتكيف مع التوتر.
- العلاج الأسري (Family-Based Treatment): خاصة للمراهقين، حيث تُشارك الأسرة في عملية التعافي.
- العلاج الدوائي: قد تُستخدم مضادات الاكتئاب (خاصة مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية SSRIs) لتقليل نوبات الشراهة وتحسين المزاج. بعض الأدوية الأخرى قد تُستخدم للتحكم في الاندفاعات.
- الدعم الغذائي والاستشارة: تُساعد أخصائيي التغذية في تطوير أنماط أكل صحية ومنتظمة.
- مجموعات الدعم: تُوفر بيئة آمنة للمشاركة والتعافي.
خلاصة: الحاجة إلى الوعي والتدخل المبكر
سواء كان الأمر يتعلق بفقدان الشهية أو الشراهة، فإن هذه الاضطرابات تُشكل تحديات صحية كبيرة تؤثر على الأفراد من جميع الأعمار. يُعد الوعي بهذه الحالات، وفهم أسبابها المتعددة، والبحث عن المساعدة المهنية المبكرة أمرًا بالغ الأهمية. فالتدخل في الوقت المناسب يمكن أن يمنع تفاقم المضاعفات الجسدية والنفسية، ويُحسن بشكل كبير من جودة حياة الأشخاص المتأثرين بهذه الاضطرابات.
التسميات
سلوك