الصيام والسكري: فهم آليات الجسم الفسيولوجية وتحديات إدارة الجلوكوز لمرضى السكري خلال الصوم

آليات الجسم أثناء الصيام وتأثيره على مرضى السكري:

عندما يصوم الإنسان عن الطعام، تحدث سلسلة من التغيرات الفسيولوجية المعقدة داخل الجسم لضمان استمرارية إمداد الخلايا بالطاقة. تُعد هذه الآليات ضرورية لفهم كيفية استجابة الجسم لنقص الغذاء، وتُسلط الضوء على الأسباب التي تجعل الصيام، خاصةً في حالات معينة مثل مرض السكري، يتطلب حذرًا شديدًا واستشارة طبية.

1. استجابة الجسم لنقص الجلوكوز خلال الصيام:

تُعتبر مستويات الجلوكوز (سكر الدم) الوقود الأساسي للخلايا، خاصةً خلايا الدماغ. عندما يصوم الإنسان ويتوقف عن تناول الطعام، يبدأ معدل الجلوكوز في الدم بالانخفاض. لمواجهة هذا النقص، يمتلك الجسم آليات تعويضية دقيقة لضمان استمرار توفر الطاقة:
  • إفراز هرمون الجلوكاجون والأدرينالين: في المراحل الأولى من الصيام، يستشعر البنكرياس الانخفاض في مستوى الجلوكوز في الدم، فيقوم بإفراز هرمون الجلوكاجون (Glucagon). بالتزامن مع ذلك، تفرز الغدد الكظرية (فوق الكلوية) هرمون الأدرينالين (Adrenaline). يعمل هذان الهرمونان بشكل تآزري على تحفيز الكبد.
  • استخلاص الجلوكوز من مخزون النشا (الجليكوجين): يقوم الكبد بتفكيك مخزونه من الجليكوجين (Glycogen)، وهو الشكل المخزن من الجلوكوز، ليُطلق الجلوكوز مباشرةً في مجرى الدم. تُعرف هذه العملية بـ "تحلل الجليكوجين" (Glycogenolysis).
  • تكوين الجلوكوز من مصادر أخرى (تخليق الجلوكوز الجديد): إذا استمر الصيام لفترات أطول (عدة ساعات أو أيام)، ينضب مخزون الجليكوجين في الكبد. عند هذه النقطة، يلجأ الجسم إلى مصادر أخرى لتكوين الجلوكوز. يزداد إفراز هرمون الكورتيزول (Cortisol) من الغدة الكظرية وهرمون النمو (Growth Hormone). يعمل هذان الهرمونان على تحفيز عملية تُسمى تخليق الجلوكوز الجديد (Gluconeogenesis)، حيث يتم تحويل البروتينات (من العضلات) والدهون (من الأنسجة الدهنية) إلى جلوكوز لتعويض النقص الحاد في سكر الدم. تُساعد هذه الآلية الجسم على الصمود لفترات طويلة دون طعام، لكنها قد تكون لها تداعيات إذا لم يتم إدارتها بشكل صحيح.

2. الصيام لمرضى السكري: قرار يتطلب تقييمًا دقيقًا

يُعد سؤال مرضى السكري عن إمكانية الصيام خلال شهر رمضان من الأسئلة الشائعة والمعقدة. في الحقيقة، لا توجد إجابة واحدة تناسب الجميع، فالقرار يعتمد بشكل كبير على عدة عوامل مرتبطة بحالة المريض الصحية، ويجب دائمًا اتخاذه بالتشاور مع الطبيب المعالج.

الفئات التي لا يُسمح لها بالصيام:

  • حالات عدم استقرار السكر والمضاعفات: المرضى الذين يعانون من تقلبات حادة في مستوى السكر في الدم (ارتفاعات وانخفاضات متكررة)، أو الذين لديهم مضاعفات السكري مثل أمراض القلب، أو الفشل الكلوي، أو اعتلال الأعصاب السكري، أو اعتلال الشبكية. الصيام في هذه الحالات قد يُفاقم من المشكلات الصحية ويزيد من خطر حدوث مضاعفات خطيرة.
  • الحوامل والمرضعات: تُعتبر هذه الفئة من الفئات عالية الخطورة، حيث يمكن أن يؤثر الصيام سلبًا على صحة الأم والجنين أو الرضيع.
  • مرضى الأنسولين بجرعات كبيرة وخطر الغيبوبة أو الحموضة الكيتونية: لا يُسمح بالصيام للمرضى الذين يعتمدون على جرعات كبيرة من الأنسولين، أو الذين لديهم تاريخ من نوبات الغيبوبة السكرية (سواء بسبب انخفاض أو ارتفاع السكر الحاد)، أو الذين تظهر لديهم علامات الأسيتون في البول.
  • خطر الحماض الكيتوني السكري (Diabetic Ketoacidosis - DKA): الصيام، خاصةً في غياب الكربوهيدرات الكافية، يدفع الجسم إلى حرق الدهون كمصدر رئيسي للطاقة بشكل مفرط. تُنتج هذه العملية مركبات تُسمى "الأجسام الكيتونية" (Ketone Bodies). في مرضى السكري غير المنضبطين، يمكن أن تتراكم هذه الأجسام الكيتونية بكميات كبيرة في الدم، مما يؤدي إلى حموضة الدم (Acidosis)، وهي حالة خطيرة تُعرف بالحماض الكيتوني السكري تتطلب عناية طبية فورية.

الفئات التي قد يُسمح لها بالصيام (بموافقة الطبيب):

  • مرضى الأنسولين بجرعة واحدة ومستقرين: المرضى الذين يعتمدون على جرعة واحدة من الأنسولين يوميًا، ولديهم مستوى سكر مستقر ومنضبط بشكل جيد، قد يتمكنون من الصيام بعد استشارة طبيبهم وتعديل جرعات الأنسولين وتوقيتاتها.
  • مرضى السكري المعالجون بالأقراص المنظمة للسكر: المرضى الذين يستخدمون الأدوية الفموية لخفض السكر، ولديهم مستوى سكر منضبط، ولا تتعارض جرعات أقراصهم مع فترة الصيام، يمكنهم غالبًا الصيام بعد استشارة الطبيب وتعديل جرعات الدواء ومواعيدها.
  • مرضى السمنة: في بعض الحالات، وخاصةً للمصابين بالبدانة المصاحبة لمرض السكري من النوع الثاني (التي غالبًا ما تكون مقاومة للأنسولين)، قد يكون الصيام (بإشراف طبي دقيق) مفيدًا للمساعدة في خفض الوزن وتحسين حساسية الأنسولين، وبالتالي تحسين السيطرة على مستويات السكر في الدم. ومع ذلك، يجب أن يتم ذلك بحذر شديد وبتوجيه من الطبيب.

3. الأهمية القصوى لاستشارة الطبيب:

بغض النظر عن الفئة التي يندرج تحتها مريض السكري، فإن القرار النهائي بشأن إمكانية الصيام من عدمه يعود دائمًا إلى الطبيب المعالج. يُجري الطبيب تقييمًا شاملاً لحالة المريض، بما في ذلك:
  • تاريخه المرضي.
  • الأدوية التي يتناولها وجرعاتها.
  • مدى انضباط مستوى السكر لديه.
  • وجود أي مضاعفات.

خلاصة:

بناءً على هذا التقييم، يُقدم الطبيب التوصية المناسبة، وقد يُقدم إرشادات حول تعديل جرعات الأدوية، ونظام التغذية خلال فترة الإفطار والسحور، ومراقبة مستويات السكر بشكل متكرر أثناء الصيام. إن الالتزام بهذه التوجيهات ضروري لضمان سلامة مريض السكري وتجنب أي مخاطر صحية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال