أملاح الإمهاء الفموي لمكافحة الجفاف:
تُعد أملاح الإمهاء الفموي (Oral Rehydration Salts - ORS)، والتي تُعرف أيضًا بمحلول معالجة الجفاف الفموي (Oral Rehydration Solution - ORS)، إحدى أهم الابتكارات الطبية في القرن العشرين، وهي سلاح فعال وبسيط وغير مكلف لمكافحة الجفاف الذي يُعد السبب الرئيسي للوفاة لدى الأطفال دون سن الخامسة بسبب الإسهال. يُستخدم هذا المحلول لتعويض السوائل والأملاح الأساسية التي يفقدها الجسم بسرعة خلال نوبات الإسهال أو القيء.
ما هي أملاح الإمهاء الفموي وكيف تعمل؟
أملاح الإمهاء الفموي هي عبارة عن مزيج متوازن من الأملاح (الإلكتروليتات) والسكر (الكربوهيدرات) يُذاب في الماء النظيف. المكونات الأساسية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية (WHO) واليونيسف تشمل:
- كلوريد الصوديوم (ملح الطعام): لتعويض الصوديوم المفقود.
- سترات الصوديوم (أو بيكربونات الصوديوم في التركيبات القديمة): للمساعدة في تصحيح الحموضة في الدم التي قد تحدث نتيجة الجفاف.
- كلوريد البوتاسيوم: لتعويض البوتاسيوم المفقود، وهو معدن حيوي لوظائف القلب والعضلات.
- الجلوكوز (سكر العنب): يُعد الجلوكوز مكونًا أساسيًا، ليس فقط لتوفير الطاقة، ولكن الأهم لأنه يُساعد على امتصاص الصوديوم والماء في الأمعاء. هذه الآلية تُعرف بـ "النقل المشترك للجلوكوز والصوديوم" (Sodium-Glucose Cotransport)، حيث يتم امتصاص أيوني صوديوم وجزيء جلوكوز معًا عبر بروتين ناقل في الخلايا الظهارية للأمعاء. وبفضل هذه الآلية، يتبع الماء الصوديوم والجلوكوز إلى داخل الجسم للحفاظ على التوازن التناضحي، مما يساهم في إعادة ترطيب الجسم بفعالية حتى مع استمرار الإسهال.
كيف تعمل؟ عندما يشرب الشخص محلول أملاح الإمهاء الفموي، فإن التوازن الدقيق بين الجلوكوز والأملاح فيه يُعزز امتصاص الماء والإلكتروليتات من الأمعاء إلى مجرى الدم. هذا الامتصاص السريع للسوائل يساعد على:
- معالجة الجفاف: تعويض السوائل المفقودة بسرعة.
- تصحيح اختلالات الكهارل: استعادة توازن الصوديوم والبوتاسيوم والكلوريد في الجسم.
- تقليل شدة الإسهال ومدته: على الرغم من أن أملاح الإمهاء الفموي لا توقف الإسهال بشكل مباشر، إلا أنها تُقلل من المضاعفات الخطيرة له وتُسرع عملية الشفاء.
أهمية أملاح الإمهاء الفموي وتوصيات منظمة الصحة العالمية
تُعتبر أملاح الإمهاء الفموي حلاً "ثوريًا" نظرًا لـ:
- فعاليتها العالية: تُقدر الدراسات أنها تُقلل من خطر الوفاة بسبب الإسهال بنسبة تصل إلى 93%.
- تكلفتها المنخفضة: فهي ميسورة التكلفة ومتاحة على نطاق واسع.
- سهولة إدارتها: يمكن إعطاؤها عن طريق الفم في المنزل، مما يجعلها مناسبة للمناطق النائية التي تفتقر إلى المرافق الصحية المتقدمة.
توصيات منظمة الصحة العالمية واليونيسف:
منذ عقود، أوصت منظمة الصحة العالمية واليونيسف بتركيبة موحدة لأملاح الإمهاء الفموي لعلاج الجفاف الناتج عن الإسهال، بغض النظر عن السبب أو الفئة العمرية. منذ عام 2002، أوصت المنظمة بتركيبة جديدة ذات "أسمولالية منخفضة" (Reduced Osmolarity ORS). هذه التركيبة تحتوي على كميات أقل من الصوديوم والجلوكوز مقارنة بالتركيبة الأصلية، وقد ثبت أنها أكثر فعالية في تقليل الحاجة إلى السوائل الوريدية وتقليل حجم البراز.
بالإضافة إلى ORS، تُوصي المنظمة بإضافة مكملات الزنك: يُعد الزنك من المغذيات الدقيقة الحيوية التي تُفقد خلال نوبات الإسهال. وقد أظهرت الأبحاث أن إعطاء مكملات الزنك مع أملاح الإمهاء الفموي يُقلل من مدة الإسهال وشدته، ويُخفض من احتمالية تكرار نوباته على المدى القصير، مما يُعزز التعافي الكامل للطفل.
كيفية التحضير والاستخدام:
تتوفر أملاح الإمهاء الفموي عادة على شكل مسحوق في أكياس (ظروف) جاهزة للذوبان. من الضروري اتباع التعليمات بدقة لتحضير المحلول:
- غسل اليدين جيدًا.
- استخدام ماء نظيف وآمن للشرب. يُنصح باستخدام الماء المغلي مسبقًا والمبرد.
- إفراغ محتويات الكيس بالكامل في الكمية المحددة من الماء (غالبًا 1 لتر، ولكن يجب التحقق من التعليمات على العبوة).
- التحريك جيدًا حتى تذوب جميع المكونات.
- الجرعة: تختلف الجرعة حسب العمر وشدة الجفاف. بشكل عام، يُعطى الطفل أو البالغ كميات صغيرة ومتكررة من المحلول بعد كل نوبة إسهال أو قيء.
- للرضع والأطفال الصغار: 50-100 مل بعد كل براز سائل.
- للأطفال الأكبر والبالغين: 200-400 مل بعد كل براز سائل.
- في حالة القيء، يُنصح بالانتظار 10 دقائق ثم إعادة إعطاء المحلول بكميات أصغر وعلى فترات متقاربة.
- التخزين: يُستهلك المحلول المحضر في غضون 24 ساعة، ثم يجب التخلص من الكمية المتبقية وتحضير محلول جديد إذا لزم الأمر.
ملاحظات هامة:
- لا يجب إضافة سكر إضافي أو ملح أو أي مكونات أخرى إلى محلول ORS، فقد يُغير ذلك من تركيزه ويُقلل من فعاليته أو يُسبب مشاكل صحية.
- تجنب المشروبات الغازية والعصائر غير المخففة والشاي والقهوة والمشروبات الرياضية، لأن محتواها العالي من السكر يمكن أن يزيد من الجفاف.
- إذا لم تتحسن حالة المريض، أو ظهرت عليه علامات جفاف شديد (مثل الخمول الشديد، عدم التبول، العينين الغائرتين)، يجب التوجه إلى أقرب مرفق صحي على الفور.
تاريخ أملاح الإمهاء الفموي:
تعود قصة أملاح الإمهاء الفموي إلى فترة الستينيات من القرن الماضي، عندما كان الإسهال يُودي بحياة الملايين من الأطفال سنويًا، خاصة في الدول النامية. في عام 1968، اكتشف العلماء في بنغلاديش آلية النقل المشترك للجلوكوز والصوديوم، مما مهد الطريق لتطوير تركيبة فعالة من ORS.
اعترفت منظمة الصحة العالمية واليونيسف بفعالية ORS في أوائل السبعينيات، ومنذ ذلك الحين تم الترويج لها كعلاج أساسي للإسهال. وقد ساهمت هذه الأملاح في إنقاذ حياة ملايين الأطفال حول العالم، مما جعلها تُوصف بأنها "ثورة علاجية كبرى" وواحدة من أهم الإنجازات في مجال الصحة العامة العالمية.
باختصار، أملاح الإمهاء الفموي ليست مجرد خليط من الأملاح والسكر؛ بل هي حل علمي بسيط، مبني على فهم دقيق لآليات امتصاص الجسم للماء، وقد أثبتت فعاليتها الخارقة في إنقاذ الأرواح ومكافحة أحد ألد أعداء صحة الأطفال.