كتاب الجامع لمفردات الأدوية والأغذية أو مفردات ابن البيطار أو الجامع في الأدوية المفردة



ألف ابن البيطار هذا الكتاب في أُخريات حياته بعد دراسات عملية قائمة على التجربة والمشاهدة كأساس لدراسة النبات والأعشاب والأدوية.

وهو من أهم كتب ابن البيطار إطلاقا وأوسع كتبه في موضوع علم النبات، وأعمقه، وهو من أجلّ ما ألّف العرب في موضوع الأدوية المفردة وعلم النبات طول الحقبة الممتدة من ديسقوريدوس إلى القرن السادس عشر الميلادي.

فقد كان هذا الكتاب (الجامع في الأدوية المفردة) دائرة معارف حقيقية في هذا الموضوع، ضمت بين دفتيها كامل الخبرات الإغريقية والعربية، لذا يجب القول إن ابن البيطار أعظم عالم نباتي وصيدلي في القرون الوسطى، ولو أخذت الأمور على حقيقتها فهو أعظم عالم نباتي وصيدلي في جميع العصور على حد تعبير المستشرق (راملاندو) في كتابه (الإسلام والعرب).

بالرغم من أن مادة الكتاب كانت في معظمها تجميعا لما اطلع عليه ابن البيطار، فإن شخصيته ظهرت في هذا الكتاب ظهورا بارزا تمثله مظاهر مظاهر كثيرة:

- أول المظهرين: نقد المؤلف العلمي المنهجي الدقيق لأخطاء العلماء العرب الذين نقل عنهم، والمترجمين الذين نقلوا كتب الطب والصيدلة الأعجمية إلى العربية، كالرازي والإدريسي وابن سينا.

والنقد الذي وجهه ابن البيطار لهؤلاء العلماء - وهم أعلام العلماء في الصناعة الطبية - مهم جداً لأنه دالّ على مدى تمكنه من معرفة الأدوية المفردة، وعلى قدرته على التمييز الصحيح بين أصناف الأدوية وأنواعها، وخاصة الأدوية النباتية.

- وثاني المظهرين: إسهام ابن البيطار في المادة النباتية العربية بإضافته نباتات جديدة من محض اكتشافه إلى النباتات التي عرفها العرب من قبل سواء عن طريق الترجمة أو عن طريق التجارب الخاصة.

يعتبر كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" والمعروف "بمفردات ابن البيطار" من أنفس الكتب النباتية وأشهرها، ألفه بعد دراسات مضنية، وبعد أن جاب كل تلك البلاد، حيث أودع فيه كل تجاربه ومشاهدته خلال سني أبحاثه الطويلة، معتمداً المنهج العلمي في البحث والتنقيب، وعلى التجربة والمشاهدة كأساس لدراسة النبات والأعشاب والأدوية، فشرح في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه في أبحاثه فيقول: "... ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لدي بالمخبر لا بالخبر أخذتُ به، وما كان مخالفاً في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية والماهية للصواب نبذته ولم أعمل به".

ومن مزايا كتابه هذا ترتيبه حسب حروف المعجم لتقريب مأخذه وليسهل على الأطباء والطلبة الاطلاع عليه دون مشقة أو عناء.

كما ذكر فيه الأدوية الخاطئة التي تستعمل بالتواتر، وفنَّد وهمها معتمداً على تجاربه ومشاهداته، كما أنه ذكر فيه أسماء الأدوية بسائر اللغات المتباينة بالإضافة إلى منابت الدواء ومنافعه وتجاربه الشهيرة، وكان يقيِّد ما كان يجب تقييده منها بالضبط والشكل والنقط تقييداً يضبط نطقها حتى لا يقع الخطأ أو التحريف عند الذين ينسخون أو يطَّلعون عليه، وذلك لأهمية الدواء وتأثير الخطأ على حياة الناس.

كما أنه دوّن فيه كل الشروح والملاحظات المتعلقة بتخزين النباتات وحفظها وتأثير ذلك على المواد الفعَّالة والمكونات الغذائية الموجودة فيها.

ويصف كتاب الجامع تلميذه ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" فيقول: "لا يوجد أجلّ ولا أجوَد منه"، ويصف شخصية ابن البيطار فيقول: "رأيت من حسن عشرته وكمال مروءته وكرم نفسه ما يفوق الوصف، وشاهدت معه في ظاهر دمشق كثيراً من النباتات في مواضعها، ووجدت عنده من الذكاء والفطنة والدراية في النبات وفي الكتب المؤلفة في هذا العلم ما يثير التعجب لذاكرته المتوقدة النادرة، فكان يذكر كل دواء في أي كتاب ذكر وفي أي مقالة من هذا الكتاب وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة، إن ابن البيطار هو أوحد زمانه وعلاّمة عصره في معرفة النبات وتحقيقه واختياره ومواضع نبته ونعت أسمائه على اختلافها وتنوعها"..

ويقول عنه ماكس مايرهوف: "إنه أعظم كاتب عربي خلّد في علم النبات".
ويعترف المستشرق روسكا بأهمية هذا الكتاب وقيمته وأثره الكبير في تقدم علم النبات ويقول: "إن كتاب الجامع كان له أثره البالغ في أوروبا، وكان من أهم العوامل في تقدم علم النبات عند الغربيين".

والباحثة الألمانية زيغريد هونكه تقول في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب": إن ابن البيطار من أعظم عباقرة العرب في علم النبات فقد حوي كتابه الجامع كل علوم عصره وكان تحفة رائعة تنم عن عقل علمي حي، إذ لم يكتفِ بتمحيص ودرس وتدقيق 150 مرجعا بل انطلق يجوب العالم بحثاً عن النباتات الطبية فيراها بنفسه ويجري تجاربه عليها إلى أن وصل به الأمر ليبتكر 300 دواء جديد من أصل 1400 دواء التي تضمنها كتابه مع ذكر أسمائها وطرق استعمالها وما قد ينوب عنها، كل هذه عبارة عن شواهد تعرّفنا تماماً كيف كان يعمل رأس هذا الرجل العبقري".

تُرجم كتابه إلى عدة لغات وكان يُدرَّس في معظم الجامعات الأوروبية حتى عهود متأخرة، وطبع بعدة لغات وبعدة طبعات، وفي اللغة العربية طبع عام 1874 في مصر بأربعة أجزاء ونشرته دار صادر في بيروت 1980 في مجلدين، ويوجد العديد من المخطوطات لهذا الكتاب موزعة في عدد من مكتبات العالم ومتاحفه.

ويقول في مقدمة كتابه عن سبب تسميته له بالجامع: "وسميته الجامع لكونه بين الدواء والغذاء، واحتوى على الغرض المقصود مع الإيجاز والاستقصاء".

ومن يقرأ هذين الكتابين لابن البيطار وغيرهما يجده يمتاز بعقلية علمية أصيلة تميل إلى التجربة وتؤمن بالمشاهدة والملاحظة والاستنباط، وتحري الدقة والأمانة العلمية في النقل، ومن هنا لا يكون غريبًا أن نجد اهتمام الباحثين المحدثين يزداد بإنتاجه العلمي، واعتباره ـ من بين العشابين والصيادلة العرب والمسلمين ـ أكثرهم إنتاجًا وأدقهم دراسة في فحص النباتات في مختلف البيئات، وفي مختلف البلاد، وكان لملاحظاته القيّمة أكبر الأثر في تقدم علم الصيدلة أو الفاوماكولوجي، ولذلك يقول عنه معاصروه: (إنه الحكيم الأجل، العالم النباتي وعلامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه واختباره).

وقد استطاع أن يخرج من دراسته للنبات والأعشاب بمستحضرات ومركبات وعقاقير طبية تعد ذخيرة للصيدلة العالمية. وقد شهد له تلميذه النجيب ابن أبي أصيبعة وحكي في مؤلفه عن رحلاته العلمية.

ومن الجدير بالذكر أن ابن البيطار قد استفاد من الإسهامات التي قدمها ديسقوريدس والذي كان له مؤلفات هامة من بينها كتاب (الحشائش) الذي قام ابن البيطار بترجمته ونقل منه الكثير في كتابه (الجامع للأدوية المفردة)، وعندما قام ابن البيطار بترجمته لم يكتف فقط بترجمته ونقل نصوصه، ولكنه امتاز بعمق المعرفة والدقة في تناوله، حيث جمع المصادر الهامة لمادة البحث ولم يكتف بمصدر واحد فقط، بل رجع إلى عدة مصادر وعقد بعض المقارنات بين ديسقوريدس وجالينوس وعلماء العرب السابقين، وقد كان حريصا على نقل أسماء النباتات بدقة، وأضاف العديد من التعليقات على هوامش الكتاب (الحشائش) للزيادة في الإيضاح وتوصل إلى نتائج جديدة.

ومن تصفُّح مؤلفات ابن البيطار نجد أنه قد استفاد أيضًا من جالينوس حيث تأثر بمؤلفاته الكثيرة، ومن بينها كتابه الذي يتضمن أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا، وكذلك بكتابه (الاسطقسات) (العناصر) وكتابه (التشريح الكبير) وكتابه (حيلة البرء).

وقد كان جالينوس أول الأطباء الذين أجروا اختبارات للوقوف على طريقة عمل بعض الأعضاء مثل الكُلَى، وصلة الحبل الشوكي بحركات الجسم، والحساسية، وطريقة عمل التنفس والنبض فأثبت علميا أن الشرايين تحتوي على دم وتنقله، على ما يذهب إليه الأب جورج قنواتي.

ومن أبرز إنجازات جالينوس والتي تأثر بها ابن البيطار، اهتمامه بإجراء التجارب وتحضير الأدوية فقد كان جالينوس يحضر الأدوية بنفسه، وقد وصف 473 وصفا طبيا من مختلف المصادر نباتات وحيوانات ومعادن.

وإذا كان ابن البيطار قد استفاد من علماء اليونان، فإنه أيضًا قد تأثر بعلمائنا العرب الذين قد تأثروا بدورهم بالعلم اليوناني، ومن أبرز هؤلاء العلماء، أبو حنيفة الدينوري، الذي كان من علماء اللغة المعروفين، والذي وضع كتاباً في النبات، ولم يصف مثله في اللغة العربية، إذ يعد أول كتاب عربي ألّف في النبات، وإن كان العرب قبله قد تكلموا في النبات، بدليل أنه نقل هو نفسه من كثير من العلماء الذين سبقوه في هذا الميدان، إلا أنهم لم يضعوا كتابا معروفا متكاملا في ذلك.

ويقول أبو حنيفة في كتابه: (جمعت فيه كل ما كانت العرب تعرفه في هذا العهد من نباتات، وقد انتهى أثناء الحديث عن كل نبات بذكر ما وضعه العرب من شعر ونثر، جامعا فيه بين ما قاله ورواه لغويو العرب في النباتات، وما كتب من هذه النباتات لدى الأمم الأخرى).

وقد استفاد ابن البيطار من أبي حنيفة الذي كان نباتيا لغويا، بينما كان ابن البيطار عشابا وطبيبا نباتيا، تحدث عن النبات وأوصافه، أصله وساقه وورقه وزهره وثمره، حتى لا يخلط بين نبات نافع وآخر ضار، ثم يقف على ذلك بذكره ما يستخلص منه من عقار مفيد في العلاج، وكيف يؤخذ كدواء ومتى يؤخذ، وكيف يعد وكيف يتم تعاطيه ومقدار الجرعة.

كما استفاد ابن البيطار من العالم الطبيب والفيلسوف ابن سينا الذي استقصى نسبة كبيرة من النباتات، والتي كانت معروفة في عصره، فأورد في كتابه (القانون) طائفة كبيرة من النباتات الشجرية والعشبية والزهرية والعطرية والطحلبية، وبين الأجناس المختلفة من النباتات والأنواع المختلفة من الواحد وذكر المتشابه وغير المتشابه، وعُني بذكر مواطن النبات والتربة التي ينمو فيها إن كانت ملحة أو غير ملحة.

ولكن نجد تميز ابن البيطار عن ابن سينا في كثير من المواضع، فبينما نجد ابن سينا يهتم بدراسة النبات، ويتناوله تناولا عامٌّا من حيث أوصافه الدقيقة، التي تميزه عن غيره، وذكر منابته ـ نجد ابن البيطار يركز على الخصائص الطبية وفوائده في العلاج ومداواة الأمراض، ويوجه اهتمامه إلى تفصيل المزايا الطبية.

ويقارن الباحث الجنبلاطي بين مقدرة ابن سينا وابن البيطار بقوله: (وليس معنى ذلك أن نتهم ابن سينا بالقصور في أبحاثه الخاصة في علم النبات أو أنه يفضل الخصائص الطبية، بل كان يعطيها من الأهمية مثل ما يعطي وصفًا للنبات، ومن هنا تتضح دقة ابن سينا، وإن لم يكن صيدليٌّا كما كان ابن البيطار، فابن سينا كان اهتمامه في مجال التأليف الطبي المتسق الذي يتناول الطب والصيدلة معًا، بينما كان ابن البيطار يهمه مجال الصيدلة وحده).

كما تأثر ابن البيطار بالغافقي النباتي المشهور الذي يعد من أعظم الصيدليين العرب أصالة، حيث أخذ منه أجزاء غير قليلة من كتابه في الأدوية المفردة.

كما لا يمكن إغفال تأثر ابن البيطار بكثير من العلماء العرب والصيادلة والعشابين، والذين تظهر أسماؤهم في مؤلفاته مثل الزهراوي وابن جزلة وأبو بكر الرازي وابن سمحون، وثابت بن قرة، وماسرجويه، وابن العوام، الذين كتبوا تراثا ضخما، تمكن ابن البيطار من الاستفادة منه وتوظيفه في تأسيس علم الصيدلة وتأصيله عند العرب والمسلمين.