تصنيف الأمراض والأدوية والعلاجات.. تعدد المستويات العلاجية بحسب قوة الدواء وقوة البدن وعلاج المرض بأقل قدر من التدخل في تركيبه الفسيولوجي



من مظاهر التقدم العلمي الطبي عند العرب تصنيفهم للأمراض وذلك للتسهيل عليهم في علاجها، فكانوا يعرضون للأمراض وأسبابها وأعراضها وعلاماتها وطرق علاجها، وقد ظهرت لدى أطباء العرب في هذه المرحلة التي عاش فيها ابن البيطار ظاهرة لم يلتفت إليها من قبل دارسو تاريخ العلوم ألا وهي (الجداول الطبية).

وقد ظهرت هذه الطريقة المنهجية عند ابن التلميذ (560هـ) في مخطوطه (المغني في الطب) حيث نرى عرضا منهجيا واضحا للأمراض، فهو يعرض في أول الجدول للمرض، وفي منتصفه للسبب الذي أدى إلى هذا المرض، وفي الأخير للأعراض المصاحبة له، وهذا واضح في كثير من الأمراض، وخاصة الأمراض الحادثة في الجفون ومداواتها، والأمراض العارضة في ملتحمة العين ومداواتها، وفي أمراض ثقب الحدقة ومداواتها، وفي الشبكية، والغشاء المستبطن للأضلاع والعضل المحركة للصدر وعلل الحجاب.

وقد ازداد النزوع نحو تصنيف الأمراض عن طريق الجداول حتى إن كتاب ابن البيطار (قانون الزمان في تقويم الأبدان) عبارة عن جداول طبية فقط، ويبدو ابن البيطار في هذا الكتاب في صورة (الطبيب) وليس (العشاب)، ذلك اللقب الذي اشتهر به.

ومثلما اهتم الأطباء بتصنيف الأمراض، اهتموا أيضًا بوضع مصنفات للأدوية والعلاجات، وعقدوا فصولا مستقلة في كتاباتهم عن تصنيف الأدوية، فنرى هذا واضحا في كتاب (الدرة البهية) لابن البيطار، حيث يشير إلى الأدوية والأغذية وأهميتها لبدن الإنسان.

ويوضح اختلاف الدواء باختلاف المرضى والمرض، فنراه يقول: (إذا كان في كل دواء من الأدوية قوى كثيرة مختلفة لا توافق المرض الواحد من جميع جهاته، فيجب معرفة أدوية كثيرة مختلفة المزاج، أو القوة نافعة من مرض واحد يختار منها المعالج الأليق بغرضه، والأصلح لقصده بحسب ما يراه من الأسباب الخاصة).

ويتابع ابن البيطار قوله: (واعلم أن الشيء الوارد على بدن الإنسان، إما أن يجعله البدن إلى ملازمته، وهذا هو الغذاء المطلق، وإما أن يغير هو البدن ويقهره، وهذا هو الدواء الفعال، وإما أن يغيره البدن ثم يعود هو فيغير البدن إلى مزاج كمزاجه وهذا هو الدواء المطلق، وإما أن يغير البدن ثم يعود البدن فيغيره آخر، وهذا هو الغذاء المداوي، ولما كان الدواء القتال أقوى من البدن غيره وأفسده والدواء المطلق والغذاء المداوي قوتهما مقاربة لقوة البدن).

والفرق بين الغذاء والدواء، أن الغذاء يفعل فيه البدن، والدواء يفعل هو في البدن، ومن هنا نرى أن الأطباء المسلمين يعتمدون في أول الأمر على التغذية ثم الأدوية ثانيا.
ومع أن التغذية لم تكن حتى منتصف القرن الماضي توصف بأنها (علم) إلا أنها صارت اليوم تخصصا علميا دقيقا.

وتُعَدّ التغذية من البحوث الطبية الواسعة في العصر الحديث، ولكن الأطباء المسلمين وعلى رأسهم البيروني وابن البيطار كانوا ـ منذ وقت مبكر ـ ينظرون هذا النظر الصائب، فإننا نجد البيروني مثلا يوضح في كتابه (الصيدلة في الطب) أسلوبا طبيٌّا راقيًا، كان متبعا عند الأطباء المسلمين في معالجاتهم وهو (ميلهم في العلاجات إلى الأغذية الدوائية أكثر منه إلى الأدوية السّمّيّة، إلا عند الاضطرار، وأوصوا بالاقتصار في العلاج على الأغذية والتنوق في تركيبها وترتيبها، فإن لم يقنع ذلك دون الأدوية، فالميل إلى بسائطها المفردة ثم من المركبة إلى ما هو أقل أخلاطا).

فابن البيطار والبيروني، يؤكد كل منهما على أهمية التداوي بالأغذية الطبيعية والنباتات الطبية بدلا من استخدام العقاقير الكيميائية التي لها جوانب ضارة وآثار جانبية ـ ويبدو أن لديهم تجاربهم الخاصة وممارساتهم التي كشفت لهم صحة هذا ـ فإذا كان لابد من تناول عقاقير، فيفضل بسائطها المفردة على المركبة إذ الإكثار من العناصر التي تدخل في تركيب الدواء قد تكون لها عواقب وخيمة على صحة المريض.

ويؤيد الطب الحديث هذا الأسلوب العلمي في النظر إلى الدواء، وقد أخذ يتجه إليه الآن بعد أن اكتشف الآثار الخطيرة لمركبات العقاقير، التي تصلح من جانب وتضر من جوانب أخرى.

ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد (ابن النفيس) مثلا يقول في أحد كتبه: (إنا لا نؤثر على الدواء المفرد دواء مركبا إذا تم الغرض بالمفرد، لكنا قد نضطر إلى التركيب تارة لتقوية قوة الدواء وتارة أخرى لإضعافها).

ومن هنا نلاحظ تعدد المستويات العلاجية بحسب قوة الدواء وقوة البدن، والملاحظ أيضًا أنهم كانوا يلجؤون لإعطاء أقل الأدوية تأثيرا في الجسم عموما أملا في علاج المرض بأقل قدر من التدخل في تركيبه الفسيولوجي Physiology.

وكما أشرنا من قبل أن الأطباء في هذه المرحلة قد عقدوا فصولا مستقلة في كتاباتهم الطبية عن تصنيف الأدوية والأغذية فنرى هذه الخاصية الكبرى كما هي واضحة عند ابن البيطار في كتابه (الدرة البهية) واضحة لدى (ابن النفيس) في موسوعته الكبرى (الشامل) الذي خصص بها ثمانية وعشرين كتابا للأدوية والأغذية المفردة.

ونجد هذه الخاصية أيضًا عند طبيب آخر وهو (داود بن أبي البيان) الإسرائيلي ( 634هـ) في كتابه (الدستور البيمارستاني) الذي وضعه في اثني عشر بابا، وهو كتاب يشتمل على الأدوية المركبة المستعملة في أكثر الأمراض المقتصر عليها في البيمارستان.

وهذا أيضًا ما ظهر في كتاب (ابن عقيل) بهجة الفكر (حيث ذكر أن للدواء الواحد شكلين، شكلا إذا كان المريض طفلا، وشكلا آخر إذا كان المريض بالغاً.