الأمومة بالرضاعة في الشريعة الإسلامية: مكانتها، أساسها القرآني، وأبعادها الشرعية والعاطفية في تحريم الزواج والتكافل الاجتماعي

الأمومة بالرضاعة: مكانة شرعية وعاطفية في الإسلام

تُعدّ الأمومة بالرضاعة رابطة فريدة ومميزة في الشريعة الإسلامية، تمنح المرأة التي ترضع طفلاً ليس ابنها البيولوجي مكانة الأم، وإن كانت هذه الأمومة ذات طبيعة مختلفة عن الأمومة الحقيقية (البيولوجية). لا تُعتبر الأم بالرضاعة "الأم الحقيقية" بالمعنى البيولوجي الذي يعني الإنجاب، بل هي أم مجازية أو أم حكمًا، تستحق هذا اللقب الشريف لما قدمته من تغذية ورعاية أساسية للطفل.


مفهوم الأمومة بالرضاعة في الإسلام:

يُطلق لقب "الأم بالرضاعة" على كل امرأة قامت بإرضاع طفل معين، ليس ابنها البيولوجي، وفقًا لشروط الرضاعة الشرعية. هذه الشروط غالبًا ما تتضمن عدد الرضعات (خمس رضعات مشبعات فأكثر في أغلب المذاهب الفقهية) وأن تكون الرضاعة في فترة الحولين (السنتين الأولتين من عمر الطفل). بمجرد تحقق هذه الشروط، تُصبح هذه المرأة بمثابة الأم لهذا الطفل من حيث التحريم في الزواج، وتُعتبر أخواتها خالات له، وأولادها إخوة له من الرضاعة.

هذا المفهوم يُميز الشريعة الإسلامية التي تُعطي أهمية بالغة للرضاعة الطبيعية، ليس فقط كغذاء للطفل، بل كسبب لنشوء روابط اجتماعية وعائلية محددة.


أساس الأمومة بالرضاعة في القرآن الكريم:

لم يُترك مفهوم الأمومة بالرضاعة للاجتهاد البشري فحسب، بل تم تأكيده بنص صريح من القرآن الكريم، مما يُضفي عليه صبغة التشريع الإلهي. قال تعالى في محكم التنزيل في سورة النساء (الآية 23)، في سياق ذكر المحرمات من النساء:

"وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ..." (النساء: 23).

تشير هذه الآية الكريمة بوضوح إلى أن هذه الأمومة مقيدة بوصف معين وهو الرضاع. فالمرأة تُصبح أمًا ليس بالولادة، وإنما بسبب الرضاعة. هذا التقييد يُبرز طبيعة العلاقة التي تتأسس على الفعل المحدد وهو إمداد الطفل بالغذاء الضروري لنموه، مما يُحدث تأثيرًا بيولوجيًا ونفسيًا على الطفل، وينشئ رابطة أشبه برابطة الدم.


الأبعاد الشرعية والعاطفية للأمومة بالرضاعة:

  1. التحريم في الزواج: الأثر الشرعي الأبرز للأمومة بالرضاعة هو تحريم الزواج. فالشخص لا يجوز له الزواج من أمه بالرضاعة، ولا من أختيه من الرضاعة، ولا من بنات إخوته وأخواته من الرضاعة، وغير ذلك من المحرمات التي تنشأ عن هذه الرابطة. هذا التشريع يهدف إلى توسيع دائرة المحارم وحماية النسل.
  2. الجانب العاطفي والنفسي: تتجاوز الأمومة بالرضاعة مجرد الأحكام الفقهية لتصل إلى عمق العلاقة الإنسانية. فالمرأة التي تُرضع طفلاً وتُقدم له الحنان والرعاية، تُنشئ رابطة عاطفية قوية معه، قد لا تقل قوة عن رابطة الأم البيولوجية. هذا الجانب يعكس تقدير الإسلام للدور العظيم الذي تؤديه المرضعات في بناء الأجيال، ليس فقط بتغذية الأجسام، بل بتغذية الأرواح والعواطف.
  3. التكافل الاجتماعي: يُشجع مفهوم الرضاعة على التكافل الاجتماعي والتراحم بين أفراد المجتمع. فعندما تُعجز الأم البيولوجية عن إرضاع طفلها (لأي سبب)، تتدخل امرأة أخرى لتقديم هذه الرعاية الحيوية، مما يُعزز من قيم التعاون والمساعدة المتبادلة.

في الختام، تُعدّ الأمومة بالرضاعة تجسيدًا لمفهوم العطاء الذي لا يحده الدم، ولمكانة الرعاية في بناء الإنسان. إنها علاقة مباركة تثبت كيف تُعلي الشريعة الإسلامية من قيمة الدور التربوي والعاطفي، وتُكرم من يقدمه.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال